المكتبة الوطنية حاملًا كتابه، مرتديًا نظاراته الاستثنائية، غارقٌ في حب تفاصيل الأحرف، الكلمات، و طريقة رصها، هادئ هو، دقات فؤاده منتظمة بشكل مثاليّ، يحيى بين السطور بجانب علامات الترقيم، حتى لقبوه القارئ الشرس.
انعكاس خفيف ظهر على زجاجٍ مدور موضوعٌ على وجهه، رفع رأسه فإذا بها تسأل و ابتسامتها تنير محياها: بإمكاني الجلوس هنا؟
ارتبك قليلًا، خربطت كلماتها عقله ثم قال: متلعثمًا بكل تأكيد تفضلي بالجلوس، جلست بخفةٍ، فتحت كتابها و ما زالت بسمتها لم تختفي.
أخذ يسترق نظرات عفوية بحجة أنه لم يعتد جلوس أحدٍ بجواره، حتى خطف نظرة قامت بزرع نظره برفقٍ بداخل غمازتيها، أغلق كتابه و غادر بعد سَكرته من محياها المعسول.
دخل غرفته و أوصد بابه، مَد جسده على سريره و أخذ يراجع مشهده المفضل، الذي أصبح المفضل عنده، غمازتان محفورتان بدقةٍ رهيبة، كأنهما معجزة ربانية، تأسران كل من لمح طرفًا منهم، أدار ظهره للحائط، احتضن وسادته، غرق في نومه متوسلًا الخالق بأن تزوره في منامه.
أفاق من سباته، ارتدى أجمل ثيابه، رتب شعره بتسريحته المعتادة، و أخيرًا نظارته دائرية الشكل، دخل مكتب عمله، و استهل بإسم ربنا الكريم بادئًا عمله، بعد انتهاء وقت العمل، فرَّ مغادرًا نحو بيته الثاني، عشقه المفضل بأمل اللقاء مرة أخرى.
أخذ كتابه ليكمل قرائته، حملته نسمات خطواته متجهًا نحو طاولته في آخر الرواق؛ ليرى ورقة كُتب عليها: يكفيك نظرات البارحة فأنا لم اقدر على قرائة أي كلمة من عينيك فأتيت مبكرًا، اقرأ كتابك بتمعن و السلام عليك، اغلق الكتاب و غادر مسرعًا.
صباحية اليوم التالي أخذ اجازة من عمله، ذهب للمكتبة باكرًا، تمركز على مقعده منتظرًا هلال وجهها، وما ان دقت الساعة الثالثة عصرًا، أنار وجهها مبسمه، "هه ما زالت لعثمته قائمة" تت تفضلي فأنا بإنتظار خلقتك منذ الصباح، تبسمت لتظهر زنزانة في خدها.
بقي متأملًا محياها البريء ذو النور الساطع حتى رفعت رأسها، همّت بسؤاله و قبل نطقها قال لها " أحبك".
عدنا من جديد، المكتبة الوطنية حيث قال لها على فجأة: احبكِ، بعدما نطق بها لاحظَ أنها ارادت قول شيء ما، استعادت روحها من صدمة الإعتراف و مفاجئة نُطقهِ به، سألتهُ قائلة: ماذا تقرأ؟
أي كتابٍ هذا؟
رد مسرعًا عِشقُ الغمازات في حياتنا هذه للكاتبة " ميس علاء".
طوت كتابها، رفعت جثتها، تبسمت براحة ممزوجة بالخجل؛ متعمدة اظهار حفرتا خديها، نفضت ثيابها، و قالت عن إذنكَ و غادرت مسرعة، قبل وصولها لنهاية الممر وصلها صوته يسأل: هل لنا لقاءٌ غدًا؟
هزت رأسها و غادرت.
صباح الخامس عشر من يناير، عطلة رسمية من العمل كيوم راحة من المدير العام، أفاق من نومه متأخرًا على غير العادة الساعة الآن الثانية عشر بعد الظهر قام من سريره يتململ، غسل أسنانه، رشق محياه بثلاث رشقات ماء حتى استعاد وعيه، حضّر افطارًا لنفسه تناوله مع كأسٍ من الشاي، و خرج.
في تمام الساعة الثالثة عصرًا كان متربعًا على مقعده في بيته الثاني غارقًا بتفاصيل غمازتيها و وهو يباشر قراءة ذاك الكتاب، طرقة، الثانية، و الثالثة على طاولته ايقظته من أحلام اليقظة، واقفة مبتسمة تنير المكتبة بشمس في الخد الايمن و أخرى في الأيسر، حاملة نفس الكتاب الذي يقرأه، قالت بهمسة تم خلطها بسحرٍ قد فتك بقلبه حبًا: تفضل هذا الكتاب موقع من كاتبته.
استعمرته السعادة، رد شاكرًا و الضحكة تفرغ التوتر الذي قد ملأ جسده: شكرًا لكِ؛ لكن ما اسمكِ جائته الصدمة على شكل قُبلة حُبٍ، أنا "ميس علاء".
انصرفت من المكتبة و خطواتها تكاد أن تصبح رقصة التانغو الأرجنتينية، فتح الكتاب ليشاهد حلمه بدأ يصبح حقيقة، بعد الإهداء و التوقيع، كُتبَ بِخطٍ مميز و باللون الأسود كما يعشق هو.
أنا أيضًا معجبة بك، لنا لقاءٌ آخر.
بعد لقاء ثانٍ كان سريعًا جداً، لم يتمكن من تفحص محبوبته، الفتاة التي أكلت فؤاده حبًا و شوقًا، تلك الكاتبة التي طالما بحث عنها في المدن، و الشوارع، في الندوات الأدبية، حفلات اشهار الكتب، المكاتب الوطنية، و محلات بيع الكتب، أخيرًا وجدها لكن بشكلٍ غير متوقع.
بعد مرور شهر على آخر لقاء، دام لبضع دقائق قليلة، هزيلة، ولم تكن كافية؛ ليشبع عينيه بلون ناظريها، آهٍ على تلك المقلتين، على ذمة لسانه قد ثمل من قهوة عينيها من أول رمقة دارت بينهما، في خلال ثانية و عشرة أجزاء من الثانية، كانت كفيلة لتأسره بين طيات خديها، تحت تجاويف عينيها، بين طول قامة رمشها، و خاصة في تأثير حنطية بشرتها.
استمر في التردد على مكتبة الحب، هذه المكتبة التي أطلق عليها هذا اللقب، في تاريخ الخامس عشر من يناير تحديدًا الساعة الثالثة و النصف عصرًا، ما زال يذكر تلك اللحظة، حيث قرأ جملتها تحت اهداء الكتاب له، زادت الأمل داخله و اختفت، لم تعطه رقم هاتف، عنوان بيتها، أو حتى اسم الحي الذي تسكنه.
ذات يوم عملٍ شاق للغاية و قبيل يوم العمل ببضع ثوانٍ قرر عدم الذهاب لبيته الثاني و المريح أكثر من غرفته و سريره، دقت الساعة الرابعة، قام بإطفاء جهاز الحاسوب الخاص به، رتب أوراقه، و غادر على مهلٍ، حانيًا ظهره قليلًا، متنهدًا بشكلٍ مرعب حد الغياب عن الوعي.
في بداية اليوم التالي، استيقظ في الساعة العاشرة، متأخرًا جدًا على توقيته المعتاد، قرر على عجل، لن يذهب للعمل اليوم، تناول افطاره دون متعة، ارتدى ملابس عادية جدًا، لم يسرح شعره، و ذهب للكرسي الذي بات يلعنه في كل مرة دون رؤية وجهها.
دخل المكتبة على عجلة من أمره، دون الإنتباه لأحد، وقف على صوت عامل المكتبة: سيدي انتظر.
التفت متعجبًا: نعم!!
لديك رسالة، تفضل.
تلك الصدمة كانت كفيلة لعدم عودته للمكتبة أو القراءة.
ما كان فحواها: تحيتي و بعد…
من صاحبة الغمازات الفاخرة الى القارئ الجميل، وداعًا لن نلتقي أبدا.
بعد رسالة متروكةٍ كوديعة بين يدين حارس المكتبة، و صدمة قلبه بخبر عدم اللقاء مرة اخرى، عاث الفساد و الدمار في فؤاده، احتله السواد و اعتقل خلايا دماغه الاكتئاب، و قاتل نومه الارق و استحوذ على على ليله.
لنعود للخلف قليلا: ما قبل شهر تقريبا، رجلٌ مشرق الوجه، يستمتع بكامل وقته، بكل ثانية تمر، و حتى تحت ضغط العمل يكون كالفراشة، مرحٌ و خفيف الخطى، ينهي عمله و يذهب ليقرأ و يتأمل عسل عينيها، رقة صوتها، و حفر خدها.
كفانا ذكريات، ارجعوا معي الآن، ناظروا هذا الشخص ضد الوصف السابق تمامًا، و الصدمة انه نفس الشخص، كره الكتب، لم يعد يزور المكتبة، حقدَ على حفلات الأدب، و أخيرًا ما عاد يحب الحرف و يقدسه.
مر الوقت و دار الزمان، نسي جميع خيباته، كسراته، و صفعات الدنيا له؛ لكن لم ينسى تفاصيل خلقتها، رسمة العين، حركة الشفاه، تصميم الغمازة، شعرها ذو لون القهوة، اناملها صغيرة الحجم و كل ذرة فيها ما زالت تراود ذاكرته، و ان مر يوم دون ذكرها، جاءته في المنام تغازل خلايا دماغه.
بعد أن كانت هبة الله له، قلبت لعنة، كابوس، جهنم في الارض له، و حتى انه افاق من نومه الذي لم يعد تعدى الخمس عشرة دقيقة، و هو يلعن و يشتم ذكراها، فقد اصبحت عذابًا له، من بعد ما كانت راحته و سكينة عقله و قلبه.
و أما عن الجزء المفضل لديه" شمس خديها" و كما سماها سابقًا حُفرُ الحياة، أصبح يراها زنزانة انفرادية لا يستطيع النوم او الجلوس فيها، مترٌ في متر، ذكرته في ايام اعتقاله لدى بني صهيون في سجن النقب.
فماذا عنها هي؟
هو بات يحيا في سواد حالك، قاتم، كأنه خفاش لا يهوى النور أبدًا.
أما عن كاتبتنا ذات مقلتي القهوة و زنازين الخد، الخلقة الفاتنة كأنها منحوتة من زمن تماثيل اليونان، فقد سافرت، هاجرت، رحلت، و تركت مكانها السابق دون أي أثرٍ لها، على ما يبدو أنها لا تريد أي مثقال ذرة من ماضيها.
المكان: لندن مدينة الضباب.
الوقت الحالي لا يتحرك أبدًا بداية اليوم بالتحديد: 12:00
جالسة على شرفة شقتها تحسب قطرات المطر و هي تطرق نافذة قلبها قبل زجاج الشقة، وضعها الحالي يتم مزجه ببعض الذكريات اللطيفة في ذلك المكان ( الرجل القارئ و كيفية اعترافه لها).
يجدر بي ذكر أنها ابتعدت عن الكتابة فترة طويلة، و على غفلة و دون ادراك منها كانت تحمل ورقة و بدأت بالتالي: الى من غرق في تفاصيل شمس خدي، أشتاقك حد الموت رغم بعدي عنك لفترة طويلة من الزمن، و عن كل ما يربطني بك الا انني انهض من نومي على صورة خلقتك.
لماذا؟
لِمَ عليّ تحمل كل هذا الالم؟
و كتبت بالعامية للمرة الاولى منذ سنين: ليش البشر بهربوا من الحُب؟
انا بحكيلكم ليش: لانه الحب في اغلب الوقت شعور بوجع القلب اذا صار خلاف صغير و واحد من الطرفين ما كان بمود جيد او ما اخذ وقته ليفكر بالشي ليكون رده غير مؤلم لمن يعشقه قلبه تمامًا مثلي انا كنت في قمة التسرع حين خطوت خطوتي الاولى بالمغادرة.
أنهت هذه الرسالة و اقفلت هاتفها، رمت الورقة و كسرت القلم، فغدًا يومٌ حافل صعب، يتخلله لقاء على محطة الراديو لتتحدث عن كتابها و أيضًا حفل لنشر الكتاب، لربما آخر حفل لها و لربما أيضًا لن تعود لرص الحروف بعدها.
القت نفسها على السرير، دعت ربها بما يحمله قلبها من حب، تعب، ارهاق، همٍ، و شوق لذلك الاسمر.
لنستبق الاحداث قليلًا: خلال حفل الكتاب الاخير تواجد احد اصدقاء القارئ بالصدفة ليتوقف عند سماع الاسم (ميس علاء).
دون أي تفكير أخرج هاتفه، التقط صورة، و ارسلها للأسمر الكئيب كما اسماه على هاتفه.
بعدما وصلته رسالة صديقه، عاد بالذكريات لليوم الاول اول ايام لقائه بها، يوم غرق في تفاصيل خدها و شمسه، رفع هاتفه، اجرى اتصالًا لم تتجاوز مدته الدقيقة:
-الو فريد حدد لي موقعك بالميليمتر.
= انا تحديدًا في ريتشموند على نهر التايمز.
-تمام استمتع بنهارك صديقي الى اللقاء.
انهى مكالمته و رفع هاتفه مرة اخرى، اتصل بشركة الطيران و حجز اول رحلة الى لندن و لسوء حظه كانت اول رحلة بعد ست و ثلاثين ساعة بسبب الاحوال الجوية.
ندب حظه و لعنه مئة مرة في الدقيقة، نهض عن الارض و اتجه نحو غرفته، بدأ بحزم امتعة السفر، و بعدما انهى توضيب ملابسه، قفز مسرعًا الى جاروره تناول جواز سفره، هويته الشخصية، ليتفقدهم و اذ بجواز السفر منتهي الصلاحية ناظر ساعة يده( هناك وقت ).
أخذ ( تاكسي) و انطلق الى مبنى الجوازات في عمان، انهى المعاملات بسرعة، قدمهم للموظف هناك و جلس ينتظر، سرح في خياله كالمعتاد؛ لكن هذه المرة كانت تخيلات سعيدة لدرجة ان ابتسامته لم تفارق شفتيه.
افاق من خياله على صوت المنادي باسمه: ماجد عبدالله، ماجد عبدالله.
-نعم انا هنا
= تعال و خذ جوازك قد تم تجديده.
استلم الجواز و شكر الموظف لعدم تأخره كالمرات السابقة، انطلق عائدًا لشقته و هو يترنم بكلمات عبد الحليم حافظ( على حسب وداد قلبي ).
وصل الشقة، اخذ جولة تفقدية سريعة على اغراضه لعدم نسيان اي شيء، و بكل تأكيد اخذ نسخة الكتاب الموقعة منها، رفع حقيبته عن الارض، وضعها بجانب الباب و استلقى على اريكته حتى احتل النوم جسده.
ها قد اتى يوم السفر، حمل اغراضه و استهل طريقه لمطار الملكة علياء، متوكلًا على الله و داعيًا ان يسهل ربنا الطريق. وصل المطار قبيل موعد رحلته بخمسة عشر دقيقة، ختم جوازه و شرع بالسير نحو بوابة الخروج للطائرة.
خرج من البوابة رقم ستة عشر و باشر السير نحو درج الطائرة، وقف أمامها مترددًا في الصعود، فمن الجدير بالذكر أنه يعاني من فوبيا الاماكن المرتفعة، فما بالكم وان كانت طائرة تحلق على ارتفاع يتجاوز ألف متر في السماء؟
نظر للطائرة بِحدة، تذكر أن هذه المرة لربما تكون الأخيرة، و لربما تبقيه قريبًا منها حتى آخر العمر، أخذ نفسًا عميقًا، استجمع قواه، و مع اخراج زفيره رفع قدمه اليمنى و بدأ بصعود الدرج متجهًا لعمق الطائرة.
جلس في مقعده، تلى دعاء السفر، ربط حزام الأمان، و أغلق عينيه لعله ينام لحين الوصول، كان عقله صافيًا جدًا بحيث أنه طوال الرحلة لم يفكر في شيء الا عينيها التي وصفها في مذكراته بأنها كوب قهوة عربية فاتحة اللون مائلة للصفار قليلًا.
فتح عينيه على حديث الطيار: الحمدلله على سلامتكم، قد كانت رحلة سريعة و هبوطًا سلس كجريان الماء بإمكانكم أخذ الأمتعة و المغادرة نحو قاعة المطار دمتم بخير، لم يصدق نفسه بأنه فعلها و غادر أرض الوطن جوًا.
حمل حقيبته و اتجه مسرعًا نحو صالة القادمين انهى الاجراءات المعتادة و اتصل بصديقه
-الو في أي فندق أنت
= أهلًا انا في Hilton Richmond Downtown
-حسنًا انتظرني أمامه ها انا في المطار قادمٌ اليك.
استقل سيارة أجرة، اعطى السائق العنوان، وصل الى الفندق، استقبله صديقه بشكل ودود و قال له قد حجزت لك غرفة بجوار غرفتي ها هي بطاقة الدخول، استحم و عد الى هنا سريعًا فهناك مفاجئة لك.
دخل غرفته، رمى حقيبته على السرير، أخذ حمامًا سريعًا و نزل لقاعة الاستقبال، انطلق و صديقه و هو لا يعلم شيئا، ولا الى أين يذهب، وصلا مكان اقامتها، دخلا المبنى و هم بسؤال الحارس عن شقتها و في أي طابقٍ تكمن؟
و اذ بِردٍ يحطم كُل الآمال، سقطت أحلامه و آماله كأنها لوحٌ من الزجاج يهوي من السابع حتى الأرض، تفتت و لم يبقى منه الا حبيبات بحجم النمل، كان الرد كالآتي انتقلت الى دولة أخرى، قد غادرت منذ حوالي ساعة و نصف.
وقف أمام نهر التايمز، حمل عُلبة الخاتم وألقاها في النهر، عاد للفندق حجز تذكرة العودة و غادر لندن في الصباح الباكر.
هكذا هي الدنيا لا تنصف الجميع ولا ترحم كل القلوب، و بناءا على ما قاله: رمى قلبه من نافذة الطائرة.
ناصر عماد يحيى
0 تعليقات