ما بين (الدولة المدنية).. و(الدولة العلمانية) -إسماعيل حسن سيفو
"مفهوم الدولة المدنية ونظامها أوسع وأدقّ وأقدم تاريخيا من الدولة العلمانية، وأرقى وأكثر تطوراً. وقد تمَّ ذلك التطور من خلال معالجات تأريخية لـمطبّات تطوير التجربة الديمقراطية ذاتها عالمياً. حيث اتضح من التجربة، كما سنرى لاحقا بأن نظام علمانية الدولة وديمقراطيتها الكلاسيكية الغربية بحاجة لتعديلات جوهرية تمنع العدوان والظلم والحروب والعنصرية، بفضل قضاء مستقل كليا عن تأثير السلطة، ومجتمع مدني قوي ومستقل عن الدولة.. وعملية تربية وتعليم وتثقيف طويلة وهادفة. والهدف الجوهري هنا هو ادخال وجعل العامل الأخلاقي والقيم الإنسانية في صلب العمل السياسي والقيادي والتنموي، والقضاء يُرغم القائد على ذلك. لقد جرى تطوير مفهوم الدولة المدنية بشكل أساسي بعد سلسة حروب داخلية وخارجية حصدت الملايين. ومنها الغزو الاستعماري من قبل دول غربية ذات نظم علمانية، مثل فرنسا وبريطانيا وهولندا وإيطاليا، حيث استعمرت ثلاثة أرباع العالم واستعبدت شعوبها، مع أنه قيل عن نظامهما علماني، ديمقراطي وكذلك الحرب الأمريكية على كوريا وفيتنام وتعاونها مع بريطانيا في حرب الفوكلاند.. وغزوها العراق وأفغانستان ومع أن نظامها وقانونها ديمقراطي وعلماني.. لكنه لا يمنع الحرب والغزو والعدوان ودعم حركات متطرفة و أنظمة دكتاتورية متوحشة وفاسدة. فالعلمانية برزت كنظام قاصر عن استيعاب تناقضات التقدم وحركة الحضارة في العصر الراهن ولاسيما مسألة سِلمية الدولة والمجتمع ونبذ الاستعمار والعنف والطغيان والاستحواذ على السلطة... ومناهضة التطرف والعنصرية والحروب.. سواء بين مكونات الشعب الواحد (داخليا).. أو مع شعوب أخرى (خارجيا). في الدولة العلمانية من حق الجميع، بلا استثناء، الدخول في انتخابات السلطة، بصرف النظر عن محتوى عقيدتهم ومشروعهم. أما الدولة المدنية تحجب هذا الحق (في السلطة) عن العنصريين والمتطرفين وأصحاب خطاب الكراهية والتكفير...، أيا كانوا..، وذلك بضمانة الدستور والقانون والقضاء وقوة المؤسسات ومنظمات المجتمع المدني. لذا العلمانية طرحت إشكالية كبيرة، وهي وصول بعض الأحزاب والأيديولوجيات والمنظمات العنصرية المتطرفة والأحزاب الدينية.. إلى الحكم، وذلك بشكل ديمقراطي دستوري عن طريق صناديق الاقتراع على سلطة الدولة... وذلك تطبيقا لدستور ديمقراطي علماني يتيح للجميع التقدم وبشكل متساوٍ دون انحياز ويحق لهم الترشح للمجلس النيابي.. وللانتخابات الرئاسية على حد سواء... ومن يفوز يصبح حاكما رسميا للبلاد وللشأن العام.. خلال مدة يحددها الدستور.. أو يحقق الأغلبية من خلال تحالفات مع قوى سياسية أخرى كما يحصل في عديد من الدول ذات نظم ديمقراطية، لكنها ليست دولة مدنية. ولكن في الدولة المدنية فقط يمكن ويتم وقف مثل هذا النشاطات والأحزاب المتطرفة. فنظامها المدني يخولها بوقف بعض النشاطات السياسية الخطرة على مستقبل المجتمع وعلى أمنها القومي عن طريق القضاء الأعلى. أو على بعض مكوناته فمثلا فنلندا وسويسرا نيوزيلندا تمنع قوانينها أية نشاطات سياسية أو دينية أو اجتماعية تؤثر على الحياة العامة والأمن الاجتماعي والاستقرار.. كذالك لا تتدخل مطلقا في المسائل السياسية العالمية.و يصوّت فيها المواطنون على تعديل الدستور بحيث يضمن ذلك الاستقرار والسلام العام. فالدولة المدنية هي دولة سلمية حصراً، دولة موجهة بقضاء مستقل تماما يقدر مصلحة الأمن القومي المستقبلي.. وهي تقوم على مبادئ أساسية، منها التعددية والتنوع، والسلام والتسامح، وقبول الآخر، والمساواة في الحقوق والواجبات، وحق الحكم بما يوافق دستور وقانون.. يحددان ذلك بشكل واضح.. ودرء أي خطر الانزلاق في حرب أهلية أو حروب مع دول أخرى.. أو المشاركة في حرب إلا في حالة الدفاع عن النفس والدولة والشعب تحديدا.. وبموافقة الأغلبية المطلقة في البرلمان. ولا يحق للرئيس فيها إعلان الحرب، ولا المشاركة في حرب خارج حدود بلاده. ومن أهم مبادئ الدولة المدنية ألا يخضع أي فرد فيها لانتهاك حقوقه بسبب الرأي أو المعتقد أو الجنس أو الانتماء والهوية والفكر.. وذلك من جهة الدولة.. أو من قبل فرد آخر أو طرف آخر. فهناك دوما سلطة قضاء عليا فوق سلطة القيادة والحكومة. وهي حصراً التي يلجأ إليها الأفراد عندما يتم انتهاك حقوقهم أو تهدد بالانتهاك. فالدولة هي التي تطبق القانون وتمنع الأطراف من أن يطبقوا أشكال العقاب بأنفسهم. الدولة المدنية لا تعادي الدين أو ترفضه. وما ترفضه الدولة المدنية هو استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية شعبوية عنصرية متطرفة، وكل ما يتنافى مع مبدأ التعدد والتسامح والسلمية الذي تقوم عليه الدولة المدنية. كما هو الحال في كندا، حيث تمنع الدولة الإزعاج بنشاطات دينية تتعدى حدود المصرّح به قانونا. كذلك تقوم على مبدأ الديمقراطية التنفيذية وذلك يمنع من أن تؤخذ الدولة غصبا من خلال فرد أو نخبة أو عائلة أو أرستقراطية أو نزعة أيديولوجية.. وبذلك تكون الدولة المدنية هي أرقى أشكال الدولة حتى الآن."~
0 تعليقات