عبدالحميد آل كلوت
4/9/2024
_________________________
الشاعرة هبة مصطفى تولد كركوك / حاصلة على شهادة بكالوريوس في الهندسة/ تعمل رئيس مهندسين في شركة نفط الشمال / كتبت الشعر والخاطرة والقصة القصيرة / نَشَرت كتاباتها العديد من الجرائد والمجلات / صَدَرَ لها مجموعة شعرية واحدة بعنوان (بَعضي).
(بعضي) العتبة النصية التي حملَت اسم الكتاب ، عنوان دال على جزء من كل ، بعضي وبعضنا وبعض والجمع أبعاض ، والبعض هو تجزئة الشيئ . فحين نقول ان بعض الشر أهون نقصد ان جزء من الشر هو أخف من كله بالرغم من أنه شر ، وتأتي البعض في جمل كثيرة لِتُعطي معنى لِما اتى بعدها في سياق الجملة فمثلاً نقول : لايشبه أحدهما البعض ، هنا جاءت للتفريق بين شيئين ، وأرى ان الشاعرة قد وُفِقَت في أختيار هذا العنوان الدال على جزء من كل فتمكنت من خلال عنوانها أن تُفصح على ما أحتوته نصوصها من أغراض شعرية توزعت مابين الوجدانية والأنسانية ؛ أحتوت المجموعة على (51) نصاً شعرياً تكحلت بها صفحاتها ال (127) والتي طرزتها بعناوين جذابة ودالة ، ( خياط الموتى/ فوضى مابعد الحرب/ لعل احداً يجيء/ أصوات/ سأنجو من الغرق/ أمي/ أبي/ أنت أنت/ دمية في المطار/ جوع/ قضيتي/… الخ).
ان كتابة اي نص شعري يتطلب من كاتبه توفير مستلزمات إنجاح نصه ، فكتابة الشعر سواء إن كان نثراً أو عمودياً او حراً هي ليست بالعملية السهلة كما يتصورها البعض ، فبناء النص يحتاج مستلزمات وأدوات يجب على الكاتب ان يوفرها قبل البدء بالكتابة ، إنَّ تكوين وخلق الصورة الشعرية يجب ان تمُر عبر التشبية والأستعارة والكناية فالصورة لاتأتي في الجملة الشعرية أعتباطاً ، هبة مصطفى بخيالها الواسع تمكنت من رسم صورة شعرية جميلة دالة على غرض القصيدة الشعري ؛
في قصيدتها (خياط الموتى ص7) رسمت الشاعرة صورة فضفاضة التأويل أقل مانقول عنها انها انسانية بأمتياز ، صورة مأخوذة من منظور الشاعرة اليومي الحياتي جسدت فيها نكران الجميل عند البشر وموت الوفاء ، تقول :
خياطُ حيينا / كانَ يُرقعُ ثيابنا/ ويخيطُ لنا جراحنا/ وحينَ توفيَّ مسموماً / أثرَ جرحٍ في أصبعهِ/ من ابرتهِ / لم نجد من يخيطُ كفنه / .
وفي قصيدتها (لعل احداً يجيء) ترسم لنا هبة مصطفى صورة الانتظار أنتظار الغائب الذي طالَ أنتظاره فتقول في احد مقاطعها :
غادرونا ../ ونحنُ بلا حِراك / وبرموشنا/ نخيطُ عيوننا/ على الأبواب/ لعلَّ أحداً يجيء / .
ان عملية ربط الأفكار داخل النص تؤدي الى حِبكة النص وأبراز جانبه الدلالي والشاعرة ربطت افكارها فأنجبت أنسجام نصي في نصوصها من خلال أستخدامها لأدوات العطف ( او / ف/ ثم/ و/ ) مما أعطت للنصوص أستمرارية التدفق الشعري ، ولولا هذا الأستخدام لحَدَثَ قطع في النص وبهذا لن يتحقق الانسجام ولن تتحقق الأستمرارية ، الشاعرة بفطنتها الشعرية ومساعدة الضمائر وأسماء الأشارة والأسماء حققت مبدأ الأستمرارية الشعرية في نصوصها ؛
في قصيدتها (أصوات ص12) تقول :
… صوتُ عقاربِ الساعةِ/ وهي تطحنُ السنين/ هذا المساء .. كم هو حزين /هذه الأصوات مجتمعةً/ تشربها الروح/ يمتصها القلب/ تتدفق عبر الشرايين / .
في قصيدتها (سأنجو من الغرق ص16) (لستُ بذنون / ولا أملكُ حوتاً ) (أهداني السلام/ والأمان/ والأمل/ ورحل ص20) (هذا رأس .. هذه كتف/ وهنا صدر ..ص25) (… فتفوح في الارجاء/ روائح القداحِ/ ودبكاتُ فرحٍ تدور/ حولِ نيرانٍ تنيرُ ليلي/ فيشرق دونما شمسَ الصباح / ص59) .
الرمز في القصيدة يعتمد على التشابه بين دلالتين فالرمز يوحي ولايصرح ، والشاعرة بأستخدامها الرمز وجدت علاقة بين الرامز والمرموز له ، وبهذا عمَّقَت دلالة المعنى وأثبتت مقدرتها الشعرية عندما أستخدمته أستخداماً صحيحاً فحققت عنصر الأدهاش في نصوصها التي أستخدمت فيها رموز عميقة الدلالة والمعنى ووظفته توظيفاً أنسجمَ مع غرض القصيدة الشعري مما أضافَ شكلاً جمالياً منسجماً أسهمَ في الأرتقاء بشعرية القصيدة ودلالاتها ، هبة مصطفى سَقَت نصوصها برموز وأسماء وأماكن أغنت نصوصها وعمقتها فكرياً وجمالياً ؛
في قصيدتها (حبال أم حيَّة ص14) وظفت الشاعرة رمزاً دينياً من دون الأفصاح عنه علناً حيث تقول في احد مقاطع القصيدة :
وأذا بكل الحبال في حياتي/ حيةٌ تسعى/ من أينَ لي بعصا سحرية/ تلقفُ مايأفكون/ وأضرب بها صحارى العمر/ لتنفجر أنهاراً وعيون .. الخ .
وفي قصيدتها (سأنجو من الغرق ص16) أستدعت الشاعرة ابونا ابراهيم مُلمحة غير مُصرِّحة كدلالة على القوة والبأس ،
... هناك فنارٌ يُنيرُ من بعيد/ يشعُّ في الأفق/ ربما مصيرنا ليس الغرق/ بجانبهِ شيخٌ هرم/ يتوكأ على عصاه/ يرتدي السوادَ عباءةً/ ووجهُهُ صبح/ هو أبونا ابراهيم /
لتأتي الشاعرة في قصيدتها ص21 وتذكر (النار الأزلية في كركوك وقلعتها) كرمزين تراثيين من رموز المدينة منذ مئات السنين ؛
… نسألُ عنهُ نيرانُ كركوك/ المشتعلةُ منذ الأزل/ قالت : كان في القلعةِ مسكنه/ .
ذكرت الشاعرة الاماكن ووظفتها توظيفاً رائعاً لِما للأماكن من دلالات ومعنى يَمُدان القصيدة بدفقٍ شعري أستدلالي ؛
قصيدتها (إعذريني ص43)
غزة/ وفي القلبِ نغزة/ جُرحكِ الدامي المفتوح/ لم يُبقِ للكلماتِ مغزى / .
في قصيدتها (جوع ص46) ذكرت الملكة السومرية (شبعاد) ملكة الجمال والأناقة ؛
… إن الجوع بعض العراق/ مثلما الحزن بعض الفراق/ ارث الأجداد/ من عهد شبعاد / .
نوروز هذا الرمز الاسطوري الذي تحتفل به الكثير من الدول كرمز للتحرر تارة والفرح والسرور تارة اخرى ، ففي قصيدتها (حتى في الشتاء ص48) تقول :
… مرايا من البلور/ أرى فيها ذاتي/ أرى فيها حياتي/ مليئة بالسعادة والأفراحِ/ أرى شمس نوروز/ فتفوح في الأرجاء/ روائح القداحِ… الخ .
حضور الأب الذكر والأم الأنثى في نصوصها اعطى لقصائدها رمزية دلالية صبَّت في صالح النصوص وأبرزت قدرة الشاعرة على أستدعاء وتوظيف كل مايمنح نصوصها قوة وتماسك شعريين ، فالأم رمز الالفة والمحبة والتضحية ، وهنا برز موقف الشاعرة الشعري من المرأة الذي ينبع من رؤية شعرية واعية ، والأب رمز القوة والإيثار ، هذا التوظيف ولَّدَ افقاً شعرياً منصهراً في بوتقة شعرية أنتجت عبارات شعرية أقترنت برؤيا وخطاب أعتمد على الأنزياحات اللغوية التي تواجدت في جملها الشعرية ؛
تقول في قصيدتها( أمي ص24)
تعودتُ في كل صباح/ أن أنظر الى السماء/ حيث تسكنين/ في غياهب الغياب/ حيث السحاب/ ناصعُ البياض كوجهكِ/ كئيبٌ .. مُتخمٌ بالدمعِ/… كقلبي .
في قصيدتها (أبي ص53)
وحيدةٌ بعدكَ أنا/ أشكو ولا احد يسمعني/ أستنطقُ بوهمي الأشياء / عليَّ من جديد/ أُسعدُ بصوتكَ/ يناديني ويطلبني/ اركضُ اليه.. أُلبيهِ / فتضحك من وهمي الأشياء/… الخ القصيدة .
إنَّ الشعور الداخلي الذي يتحرك في نفس ومخيلة الشاعرة جعلها ترسم بحروفها صورة شعرية وجدانية عميقة ، هبة مصطفى أحتَمَت بوجدانيتها وأنسانيتها فكتبت نصوصاً مُتَّزِنة ، هاجسها الشعري في النصوص بدا مفتوحاً وكأنه يشي بنهايات مختلفة التأويل ، مجموعة (بعضي) وُسِمَت بنصوص ذات بُنية سردية رصينة ، اعتماد الشاعرة على مخيلتها الشعرية فتحَ أمامها فضاء شعري واسع الافق جسدت فيه التناغم في بناء جُملتها الشعرية ، تم تسجيل غياب الحركات الأعرابية الا في بعض الأماكن التي رأت فيها الشاعرة انه لِزاماً عليها ان تُحَرك بعض الحروف .
0 تعليقات