قراءة الكاتب والناقد عبدالحميد آل كلوت
14/6/2024
_______________________
الشاعر عمر بهاء الدين الاميري ولِدَ في حلب 1916 وتوفي 1992 / عمِلَ سفيراً لبلاده/ له مؤلفات كثيرة / الأسلام في المعترك الحضاري/ الخصائص الحضارية في الاسلام/ في الفقه الحضاري/ ؛
توطئة
______
كتبَ قصيدته (الأب) عندما كان أبنائه من حوله يلعبون ويلهون ويعملون كل مشاغبات الطفولة ، كبُرَ الأبناء وتفرقوا في بقاع الأرض ولم يراهم منذ فترةٍ طويلة ، شعرَ بالوحدة والغربة غريبٌ كغربةِ صالح في قوم ثمود ، فألهمهُ هذا الحزن وهو الأقدر على تحريك مشاعر الشاعر وجعلهُ ينسج قصيدة يفوحُ منها الصدق .
بنى الشاعر قصيدته على البحر السريع / مستفعلن مستفعلن فاعلن ، مستفعلن مستفعلن فاعلن/ ، قصيدة استحقت ان تُكتب على هذا البحر لسرعته في اللسان ، أغلب أساليب النص جاءت خبرية ، أحتوت القصيدة على الكثير من المحسنات البديعية والأساليب الأنشائية والتشبيهات ؛
عتبة العنوان لها دلالاتها ف(الأب) عتبة نصية لها دلالاتها ، فقد جاء هذا العنوان ليُثبت حدث متوغل في نفس الشاعر ولهذا عند قراءة القصيدة تجد حرص الشاعر على تحرك قصيدته في جو العنوان ؛
التكرار تقنية عبَّرَ عنها الدكتور (صميم الياس كريم ) حيث قال :" وتكمن شاعرية التكرار وقيمته الايقاعية والدلالية بخاصة في ان مبدع النص / الشاعر يحاول الإتكاء على تقنية التكرار ويكشف لنا عن الامور والأشياء والنوازع التي يعنى بها اكثر من غيرها ، فهي عباراته التي تُشكل مرآة صادقة تعكس مايخالج الشاعر ويعتري وجدانه" .
التكرار الذي استخدمه الشاعر اضاف معاني ودلالات للقصيدة ، وحقق توافق جمالي بين موضوع قصيدته الوجداني وبين قدرته التعبيرية ، تكراره للكلمات والحروف هو انعكاس لحالته الوجدانية التي يعيشها ،
أين الضجيج العذبُ والشغبُ/ أين التدارس شابه اللعبُ/ أين الطفولة في توقدها / أين الدمى في الأرض والكتبُ/ أين التشاكس دونما غرضٍ / أين التشاكي مالهُ سببُ / أين التباكي والتضاحك في/ وقت معا والحزن والطربُ / أين التسابق في مجاورتي / شغفاً إذا اكلوا وإن شربوا/ .
تكرار/ أين / هو استفهام أبرزَ تحسر الشاعر على مامرَّ به من حالةٍ نفسية استطاع التعبير عنها بتكرار / أين/ ؛
ومن الكلمات التي كررها الشاعر كلمة (بابا) تلك الكلمة الدالة على الحنو والعاطفة والشفَقة والأبوة ، هذه الكلمة التي اعتبرها الكثيرون انها اعجمية وليست عربية ، ولكن شاعرنا وخبرته باللغة لم يستخدمها اعتباطاً فهي عربية الاصل والمنبع ، قالت العرب قديماً : (بأبأ الصبي ومأمأ) ، وقال الجاحظ :" ان الميم والباء اول مايتهيأ في افواه الاطفال كقولهم بابا او ماما لانهما خارجان من عمل اللسان ويظهران في التقاء الشفتين " . ؛ كررها الشاعر ووظفها توظيفاً رائعاً ،
فنشيدُهم : ( بابا ) إذا فرحوا
ووعيدُهم : ( بابا ) إذا غضبوا
وهتافهم : ( بابا ) إذا ابتعدوا
ونجيهم : ( بابا ) إذا اقتربوا .
لقد حصلت هذه القصيدة في وقت ظهورها على الشهرة والذيوع حتى سُميت بالقصيدة المحظوظة ، وقد أعجب بها عملاق النقد عباس العقاد وعدَّها من عيون الشعر ، حتى انها قورنت بقصائد فكتور هوغو في الاطفال .
القصيدة كاملة :
أين الضجيجُ العذبُ والشغبُ
أين التدارسُ شابه اللعبُ ؟
أين الطفولةُ في توقدها
أين الدمى في الأرض والكتب ؟
أين التشاكسُ دونما غرضٍ
أين التشاكي ماله سبب ُ؟
أين التباكي والتضاحكُ في
وقت معا والحزنُ والطرب ُ؟
أين التسابقُ في مجاورتي
شغفا إذا أكلوا وإن شربوا ؟
يتزاحمون على مجالستي
والقربِ مني حيثما انقلبوا
يتوجهون بسوْقِ فطرتهم
نحوي إذا رهبوا وإن رغبوا
فنشيدُهم : ( بابا ) إذا فرحوا
ووعيدُهم : ( بابا ) إذا غضبوا
وهتافهم : ( بابا ) إذا ابتعدوا
ونجيهم : ( بابا ) إذا اقتربوا
بالأمسِ كانوا مِلءَ منزلنا
واليوم ويح اليوم قد ذهبوا
وكأنما الصمت الذي هبطت
أثقالُه في الدار إذ غربوا
إغفاءةَ المحمومِ هدأتها
فيها يشيعُ الهمُ والتعبُ
ذهبوا أجل ذهبوا ومسكنُهم
في القلبِ ما شطوا وما قربوا
إني أراهم أينما التفتتْ
نفسي وقد سكنوا وقد وثبوا
وأحسُّ في خلَدي تلاعبَهم
في الدار ليس ينالهم نصبُ
وبريق أعينهم إذا ظفروا
ودموع حرقتهم إذا غلبوا
في كلِّ ركنٍ منهم أثرً
وبكل زاوية لهم صخب
في النافذات زجاجها حطموا
في الحائط المدهون قد ثقبوا
في الباب قد كسروا مزالجَه
وعليه قد رسموا وقد كتبوا
في الصحن فيه بعضُ ما أكلوا
في علبة الحلوى التي نهبوا
في الشطر من تفاحةٍ قضموا
في فضلةِ الماءِ التي سكبوا
إني أراهم حيثما اتجهت
عيني كأسراب القطا سرَبوا
دمعي الذي كتمته جلدا
لما تباكوا عندما ركبوا
حتى إذا ساروا وقد نزعوا
من أضلعي قلبا بهم يجب
ألفيتني كالطفل عاطفة
فإذا به كالغيث ينسكب
قد يعجب العذالُ من رَجلٍ
يبكي ولو لم أبكِ فالعجب
هيهات ما كل البكا خوَر
إني وبي عزم الرجال ابُ
_______________________
المصادر:
النوادر لأبي زيد الأنصاري .
_______________________
1 تعليقات
شكري وتقديري لنشركم قراءتي ومتابعتكم لكل حرفٍ رصين .. وفقكم الله ودمتم بخير
ردحذف