عراق

يقرأون. أم يكذبون



بقلم محمود عبدالله
إن المعلومة الصادمة الكبيرة والمؤكدة من خلال مصدرها وأحيانًا مدعمة برقم الصفحة هي ما يبعث في نفس الآخر الدهشة والرهبة وتجعلهُ يعتقد أنه أمام قارئ متمكن أو مثقف من طراز رفيع، مع أنني كنت في مرحلة عمرية لا تسمح أبدا بذلك ومع ذلك كنت دائم التمسك بهذه الحيلة ، أحد أهم هذه المعلومات هي أن الأستاذ عباس محمود العقاد قرأ في حياته ستين الف كتاب ،والرقم الكبير ( ستين الفا ) ينزل كالصاعقة على المستمع واذا أراد الاعتراض فبإمكاني أن أضيف ببساطة بان المعلومة وردت في كتاب الأستاذ انيس منصور ( في صالون العقاد كانت لنا أيام ) وهو مؤلف من سبعمائة صفحة فقط ، وأقول فقط بطبقة صوتية تنم عن الاستهانة واللامبالاة ، ولطالما أفزعت وادهشت هذه المعلومة رجال قرأوا أضعاف ما قرأت وفهموا أضعاف ما فهمت ، لكن الصدمة لم تصيب أحد العقلاء ممن يتميزون بسرعة البديهة  والذكاء الرياضي فسألني كم عاش العقاد فقلت أربعة وسبعين عاما ، قال لنفترض أنه قرأ في كل يوم من أيام حياته كتابا منذ أن كان عمره يوم واحد وهذا طبعا مستحيل ومع ذلك سنقول :
365 × 74 = 27010 وإذا افترضنا أنه قرأ في كل يوم من حياته كتابان وهذا محال ومخالف للعقل والمنطق 27010 × 2 = 54020  وفي هذه الحالة أيضا لم نصل إلى ستين الف 
-  ولكن الأستاذ انيس منصور قال....!
-  لا يهمني من الذي قال ذلك ما يهمني ان ما قاله مخالف للعقل والمنطق ، وتذكر أن افضل كتب الأدب كالعقد الفريد (وهو مؤلف من ثمان أجزاء) والأغاني لأبي فرج الأصفهاني ( وهو مؤلف من اثنان وعشرون مجلد ) لا يمكن قراءتها بشهر وليس يوم.
لم يبقى امامي سوى الاعتراف بالهزيمة ولكنني قلت دعنا نفترض أن نصف ما قراءه كتيبات من حيث الحجم ورجل مثل العقاد بإمكانه ان يقرئ اربع كتيبات كل يوم؟
فقال موافق على ان تثبت لي أن المكتبة العربية كانت تحتوي ثلاثين الف كتيب سنة 1964م (السنة التي توفي فيها العقاد ) وهكذا تخليت عن هذه المعلومة ، وجعلت انيس منصور يتوارى في الذاكرة وقد فعل ذلك لسنوات طويلة حتى اعتقدت أنني نسيتها ، وأنها ليست سوى كلمة قيلت في لحظة انفعال عندما نشرت صحيفة الأخبار المصرية خبرا يفيد بأن العقاد سيتقاضى 200 جنيه عن تسجيل لقاء تلفزيوني ، فعاتب العقاد انيس منصور رئيس تحرير الجريدة قائلاً: هل كثير على رجل كالعقاد قرأ 60 الف كتاب واصدر 60 كتابا وافنى عمره في عالم الفكر والفن أن يتقاضى هذا المبلغ !
 وبعد ذلك بسنوات كنت اقرأ مقالا للدكتور صلاح الراشد يقول فيه ان (اوشو) لديه مكتبة مؤلفة من مائة وخمسون الف كتاب قرئها كلها !! لقد راجعت الرقم اكثر من مرة وكان يصيبني بالدوار في كل مرة 150 الف ، (اوشو) عاش ثمانية وخمسون عام فقط ! مشكلة هذه المعلومة أن كاتبها لم يكتب كتاب ( الذين هبطوا من السماء ) ولا كتاب ( الذين عادوا إلى السماء ) كما ان لديه دكتوراه في الفلسفة وعلم النفس الادراكي من جامعة ميشغن .
ثم إن اوشو هذا مصيبة فلدي كتاب له مؤلف من 508 صفحة يشرح فيه رؤى جبران خليل جبران في كتابه النبي ولدي كتاب اخر مؤلف من 548 صفحة يتحدث فيه عن التصوف وشيوخ التصوف المسلمين ، وهو أول من نبهني لرواية ( مرداد ) لميخائيل نعيمة ، وقد تعتقد أنه مختص بالتراث العربي أو الإسلامي لكن عندما تقرأ كتابه البحث ( الثيران العشرة في مذهب الزن ) وفيه يشرح عشرة مقاطع شعرية من الزن قام بإعادة كتابتها ورسمها أستاذ الزن الصيني كاكوان تعتقد ان اوشوا أستاذ للزن وليس عالم متصوف وعندما يتكلم عن التانترا فسترى أنه أحد معلمي التانترا ، هذه المعرفة الموسوعية لم تأتي من فراغ كما أنني رأيت اوشو في احدى الفيديوهات يتجول في مكتبته الشخصية والحقيقة لا يمكن تصورها إلا أنها مكتبه عامة .
ثم إن هناك أسماء أخرى تجبرك على التوقف أمامها، كإسحاق عظيموف ( Isaac Asimov ) الكيمائي الأمريكي من أصل روسي وهو أديب وروائي الف 500كتاب ، وتسعين الف رسالة وبطاقة مكتوبة ( المؤلفات موجودة ولا يمكن انكار وجودها مثل القراءات ) لنتخيل هنا الرياضيات البسيطة التي استخدمها صديقي ولنقل لتأليف كتاب يحتاج عام واحد فسيحتاج إلى خمسمائة عام ، ولكني سأكون كريما ومتسامحا وسأفترض أنه يؤلف كل عام أربعة كتب فسيحتاج إلى 125 عام مع انه لم يعش سوى اثنان وسبعون عام .وعلماء الدين المسلمين ممن ألفوا مؤلفات ضخمة لا يمكن تصديقها ، ابن عساكر الف كتاب تاريخ دمشق من ثمانين مجلد ، ابن حجر العسقلاني له ما يقرب من 150 مؤلفا واحد منها (شرح الباري ) يتكون من خمسة عشر مجلدا! أحسست أني لو فتحت هذا الباب فلن انتهي من استعراض قدرات العلماء، وبلحظة ارتفع الوجود الإنساني أمامي وتسامى عن أي أرقام مجردة وايقنت أن العقول الكبيرة والمبدعة لا يمكن أن تخضع للرياضيات البسيطة ولكن حَل الظلامُ فجأة، وساد الصمت حتى شككت بوجودي ووجود كل ما هو مادي ثم سمعت صوت نسائي مزعج يمتزج فيه الغضب والسرعة وهو يقول ( طفت الكهرباء گوم حول وكافي تستعرض معلوماتك).



إرسال تعليق

0 تعليقات