عراق

حكاية الأيام... الحلقة الثانية

(حكاية الأيام)  الحلقة الثانية 
 بقلم :_ وجدي نيازالدين أكبر





مع ايماننا بالله وثقتنا العالية بمدينتنا طوز الحبيبة وبشعبنا العظيم الذي يزهو بالشعر والشعراء والأدباء والكتاب ، لم ينحصر مجد مدينتنا  في الشعر والأدب فحسب بل ثمة رجال برزوا تحت سمائها تحلوا بصفات نبيلة من شجاعة وكرم ولطف عاشوا حياتهم بحيوية ونشاط ثم رحلوا رحمهم الله مخلفين ورائهم ارثا ضخما من الذكريات  الحلوة الجميلة وتأريخا مشرفا وعلينا أن نكتب تأريخهم المشرق بكل امتنان ونعرفهم الى الجيل الحاضر والمستقبل لنحي مسيرتهم الباسلة ولانكتفي بما سمعناه ليدور في خواطرنا لأنه لاخير في مسموع ان لم يكن مطبوع  وصفة الكرم لاتطلق جزافا لكل فرد من يؤدي التزاما اجتماعيا بل هو كل ما يعكس ذلك من خلال روحه الكريمة والشخص الكريم لايكون طماعا وأنانيا وحسودا ولا يكون كالرجل الأستعراضي الذي ينقل لنا من خلال الرياء والنفاق الأجتماعي روحا مريضة اذ يقيم الولائم للتباهي فقط ويدعو وجوه المجتمع ورجالات الدولة (الحكومة) لتحقيق غاياته الشخصية ومصالحه الخاصة ومثل هؤلاء لايعدون كرماء وان ظهروا بحلتهم الواهية ولعل حاتم الطائي رمز من رموز الكرم العربي فما بالنا برموزنا الماضين في الجود والكرم ولماذا  لانظهرهم ونتكلم عنهم ونعدد مناقبهم بين يدي مقالة عن شخصية كريمة وظريفة ألا وهو محي الدين جايجي الملقب ب (جايجي محه) الذي كان صاحب مقهى قديم في نهاية القيصرية الثالثة المطل على(بويوك آرخ) المتفرع من نهر (آق صو) المار من وسط المدينة في العقد الأربعيني من القرن المنصرم واليكم نبذة عن حياته:_ 

ولد محي الدين عباس جايجي في طوز خورماتو عام 1902م في محلة "جقلة" من أب تركماني وام يهودية الأصل أسمها (حنا) أسلمت بين يدي والده فزوجها اياه --- كان له شقيق يدعى ب (علي حنا)  عاش طول حياته عائلا لان يداه كانتا ترجفان اثر مرض في اعصابه يمنعه من مزاولة اي عمل دائما يرتدي ملابسا خفيفة في كل المواسم يروى عنه أنه كان يسبح في (بويوك آرخ) في عز الشتاء ، فقد محي الدين والده في حداثته في عمر لم يبلغ الحلم عقب ما سوق والده بصفة جندي احتياط بقرار نفير عام(سفربرلك) من قبل الحكومة العثمانية أبان الحرب العالمية الأولى عام1914م  ليدافع عن قيم الرسالة المحمدية التي كانت الأمبراطورية العثمانية آنذاك تحمل لوائها والعراق كان ضمن حدود تلك الأمبراطورية ، محي الدين جايجي أب لسبعة أولاد كل من(فخرالدين ، عبدالله ، نجم الدين ، محمد ، قاسم ، هاشم ، الهام ) ،  وبنتان هما(كلدران ، سهام) وزوجته غربت ساقي رحمها الله كانت أمرأة غيورة خفيفة الظل كانت تحامي عن محلتها من شرور الأشرار وتساعد وتقضي حوائج جاراتها من النساء معرفتي بهذه العائلة الكريمة افتخربهم كانوا نعم الجيران لكون سكناي معهم في نفس المحلة ولكن للأسف أقدار الدنيا فرقت شمل الأسرة النبيلة بحكم الوظائف والمنية  فمضوا الى سبيلهم ولم يبق لهم أثر في طوز خورماتو سوى ذكرياتهم الجميلة في خواطرنا ، من صفات محي الدين الكريمة تحدث لي عنه المرحوم(علي كارخ)صلتي به انه خال والدتي قال لي:_ في عام 1945م تصادفت مع رجل من السادة عند استشارتي لطبيب يهودي معروف في بغداد أسمه(جاك عبود) ولرب صدقة خير من ألف ميعاد ،سألني  السيد من أين أنت:_قلت له أنا من مدينة طوز خورماتو : فقال لي هل تعرف  شخصا أسمه محي الدين جايجي قلت نعم قال وفقه الله انه رجل سمح وكريم ونعم الرجال هو....قلت لماذا تسأل عنه ياترى؟ فعرفني بنفسه قائلا: اني سيد مصطفى من أهل كربلاء أحد معارفنا من مدينتكم طوز خورماتو هو سمي أمير المؤمنين وهو سيد قومه وهو مثر عند قدومه لكربلاء بغية زيارة العتبات المقدسة كنا نحييه ونضيفه ونجله نكاد أن نرفعه  على رؤوسنا من شدة حبنا اياه كان يخجل من مداراتنا لشخصه وكان يلح علينا أن نزوره في طوزخورماتو حتى ولو مرة عسى أن يرد لنا بأفضل ماكنا نعمل له من حفاوة واحسان ، ذات يوم أخذت الدبس الكربلائي محملا لوري لأجل بيعه في مدينة كركوك وبعد ما أنجزنا مهمتنا داهمنا الوقت وغابت الشمس فخشينا من حوادث الطريق قلت للسائق ان لي صديقا ثريا في مدينة طوز أكثر ماكان يترجى مني زيارته فلماذا لانبيت عنده هذه الليلة في داره ...فأتينا الى منزله والوقت عشاء والموسم شتاء والجو بارد جدا بأول دخولنا البيت وأدينا عليهم السلام فسمة الحزن والكآبة بدت على ملامحهم وعيونهم ونحن أصابتنا الخيبة والخذلان كأنهم أخذوا على حين غرة ولم أصدق عيني وبعد أن مكثنا ساعتين قدموا لنا ماعونا صغيرا فيه شوربة عدس لايسد جوع عصفور صغير وأكلنا ولم نشبع ثم وضعونا في غرفة وحيدين بعد أن أعطونا غطاء خفيفا ما يسمى بالتركماني(جيجيم) فتغطينا ولكن أنى ل(جيجيم) خفيف أن يحمي جسدين منهكين من العمل من غائلة برد الشتاء فتشابكنا أنا والسائق لعل أنفاسنا تدفئنا كأننا عروسان وكنا نرد قول الشاعر أمرء القيس(الا أيها الليل الطويل الا انجلي بصبح ....) ولم ننم تلك الليلة دقيقة واحدة حتى سمعنا آذان الفجر واذا براعي الغنم يدخل الدار ونحن واقفون أمام النافذة فأشرت الى الراعي فأتاني قلت له: افتح لنا الباب حتى ننفذ حيلتنا قبل أن يقتلنا البرد ففتح الراعي الباب وهربنا ومشينا مسافة ....رأينا نارا أمام مقهى فهرولنا نحوها كي نتدفأ وجلسنا قرب النار فغفينا من شدة ما عاتيناه من أرق تلك الليلة الليلاء واذا بشخص يندهنا بلطف ويقدم لنا الفطور والشاي ولا يقبل منا أجور ما أطعمنا لأننا غرباء فرجانا أن يأخذنا الى منزله فأعتذرنا له وشكرناه على كرمه كان هذا الشحص هو محي الدين جايجي الذي سألتك عنه يأخي أليس هذا كرما وشجاعة؟ وشتان بين كرم هذا الشخص الذي لايعرفنا وبخل ذالك الذي نعرفه ونكرمه ونجله في ديارنا.....
وأختم مقالتي بهذا البيت الشعري الجميل المعبر:_
لولا المشقة ساد الناس كلهم.... الجود يفقر والأقدام قتال
                                ولكم مني أطيب التحيات

إرسال تعليق

0 تعليقات